المقهى شبه خالٍ من الرواد .. الطقس يميل إلى البروده في هذه الليلة الصافية من بق*** أغسطس ..
أتنفس باضراب .. شيء ما بداخلي يموج , ويتفاعل .. لا أعرف ما هو وعلاما هو !!
"القناديل تتهادى بضوئها الشاحب .. معلقة في سقف خشبي ..
واشباح الليل تواكب رقصة .. الفوانيس الهادئة .. على الجدران .. الطينية البارده ..
يتقمصني "المشهد" فأتقمصه .. وأغرق أنا الاخرى في الصمت "المريب" الذي يغلف المكان ..
وفجأة .. وخروجاً عن النص .. يمر شبح آدمي .. أتابع وجهه على الضوء "الفقير" للقناديل ..
فلا أرى منه إلا جسداً نحيلاً .. وثياباً لم تتعود التعامل مع الماء !! .. ووجهاً عربياً يلتف بـ "عصابة"
حمراء .. مهيبة ...
شدني منظره .. فكدت أناديه .. ولكني تهيبت ذلك ..
ولا أدري ما الذي شدني إليه .. ولا ماذا تهيبت فيه ..
وكأننا نحن على موعد .. أقبل .. كما (جاء) فجأة .. وجلس بلا استئذان بداخلي !!! وعلى
الكرسي المقابل لي ..
ولم يقل شيئاً .. لم يطلب صدقة .. لم يلق سلاماً ..
لم يبرر حتى جلوسه معي .. و إليّ .. وبدا وكأنه يعيش خارج الزمان و المكان ...
بحثت عن صوتي لأجيبه .. فلم أجده .. بلعت ريقي بصعوبة وأنا أشير إليه ليشاركني فنجاناً من
الشاي ..
ولكنه لم يكن معي على الاطلاق ..
في عينيه شاهدت حزنا عجيباً .. وكأنه شراب سحري حارق .. يعذب شاربه ويشجيه !! يسعده ويشقيه
حزناً مخموراً .. معتقاً .. بالغ العذوبة والعذاب !!!
الذهول : غلالة .. والوجع : غلالة .. واليأس : غلالة .. وعيناه تتسعان لكل هذه الغلالات ..
وكل هذا الضباب .. كأنهما محيط من نور وظلام .. وخوف وأمان .. وكل أنواع "العمق"
الانساني .. المغلف بـ (الحزن .. الذاهل .. السحيق)...
من أنت .. ماذا تريد .. كدت أسأله .. وقد تلاطم بداخلي شوق .. وخوف .. وفضول .. إلا أن
مشروع دمعة أعلنته عيناه أخرسني ...
كمن "عاد" إلى الواقع المر .. بعد محاولة للهرب .. تحرك فجأة .. وتناول فنجان الشاي .. وبدأ
يرتشفه بهدوء , ورزانة الشيوخ .. وتلذذ , المدمن .. ثم تناول لفافة تبغ .. ومارس متعة أخرى وادماناً آخر ...
أما أنا .. فلم أتوقف لحظة عن ممارسة الذهول .. والخوف .. بعد أن نسيت تماماً فضولي !!
لقد بدا لي "كائناً" غريباً .. مخيفاً بصمته المهيب .. ووجهه الغريب .. وتصرفاته الأغرب ..
وتوهمت للحظات .. أنه الصمت الذي يسبق العاصفة .. وأن بركانه سينفجر بوجهي في أي
لحظة وبدون "استئذان" ..
وكأنما قرأ مخاوفي .. كما قرأت عينيه .. فانبعث فجأة وقبل أن أستعيد صوتي لأستبقيه ..
مضى كـ "الشبح" ليذوب في الظلام الذي جاءني منه ..
بلعت ريقي زمناً .. قبل أن أستجمع قدرتي على النطق .. ولم أشأ أن استنفذها في
نداء .. "النادل" .. فأشرت إليه .. ولما جاء .. سألته برهبة هامسة : من هو ؟
ابتسم بخبث قبل أن يرد : هل أخافك ؟!
لم أجب .. ولكنني طاردت اجابته بعيني حتى استطرد بلهجة "العارف _ المحيط" : انه مجرد شاعر ...
"ولكن ....."! استدركت وأنا لا أزال أواصل الهمس .. فقاطعني مواصلاً : لا أحد يعرف حكايته ..
لقد كان شاعراً عذباً .. أبياته "الموجوعة" ترددها العذارى .. ويحفظها المراهقون ويتأملها الشيوخ ..
بيته كان شجرة .. وأهله : شاتين .. وعلاقته بهذا العالم ... قصيده , واغنيه ، و "ناي" ينوح حزناً
كلما لامس شفتيه .. ثم ... ثم اختفى فجأة .. كان هذا منذ سنوات وكثرت حوله "الحكاوي"
والتفاسير .. فمن قائل أنه "جُنّ" بعد أن طال به العذاب .. ومن قائل أنه "تدروش" وسكن مغارة
في الجبل .. ومن قائل أنه انحرف .. وأنه أدمن "الغياب" عن وجعه وحزنه ..
إلا أنه بين الحين والحين .. يطل فجأة .. كما فعل معك .. ليغني .. او يلقي قصيدة .. أو ليعلن
بصمت عن وجوده .. ثم يختفي مرة أخرى ..
=هل تعرف حبيبته ؟؟
=لا أحد يعرفه .. لا أحد يعرفها .. إلا شيخ عجوز يقيم في كوخ على رأس الجبل .. هو وحده يعرف
ولكنه يقول لمن يسأله .. أنها حكاية طويلة يخاف على أي قلب أن يسمعها ..!
ذهب النادل .. وبقيت أنا أرقب رقص الاشباح .. وتهادي القناديل .. وأمارس بداخلي كل أنواع
الذهول والفضول .. والتأثر ...
وقبل أن أغادر المقهى .. خيل إلي أنني سمعت صوت ناي حزين وبق*** أغنية حزينه .. ولما
نظرت الى الشفق الشاحب رأيت كالحالمة وجه ذلك الشاعر وقد ارتسم في الافق ...